تعالوا نعيش مع هذه الآية
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَن يَتَخطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
من الدروس والقواعد المهمة التي نتعلمها من مدرسة القرآن أنه لا يدوم حال , وإنما الأمور تتبدل , والأحوال تتغير: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَن يَتَخطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال:26] .
فإن الفترة التي كان فيها المسلمون مستضعفين أذلاء، يتعرضون لأشد ما يمكن أن يتعرض له بشر من إيذاء وتعذيب _ قد انتهت ، وأصبحوا من بعد الخوف في أمن ، ومن بعد الذل في عزة ، ومن بعد الضعف في قوة، ومن بعد الفقر في غنى وسعة. إن فراق أم موسى لولدها وصيرورتها إلى اليم في ظل المخاوف من أخذ آل فرعون له وقتلهم له - لا يدوم , بل تؤول الأمور إلى ضدها , فيُرَد موسى إلى أمه , ويجعله الله رسولاً مؤيداً من عنده , كما قال - جل وعلا - : {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} ,
ويصبح اليم أماناً له , ومهلكاً لفرعون عدو الله . وهذا قارون - الذي طغى وبغى وتجبر واختال بما آتاه الله ونسبه لنفسه وجهده , وملأ عيون أتباعه من أهل الدنيا بماله وملكه حتى تمنوا أن يكون لهم مثل ما له - يزول كل ذلك عنه في لحظة {فَخسَفْنَا بِهِ وبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ (82)}[القصص] . ثم يكون التبدل الأكبر والتحول الأعظم غداً في الدار الآخرة ؛ حيث يضحك المؤمنون من الكافرين بعدما كان الكافرون في الدنيا يضحكون من المؤمنين! ,
{إِنَّ الَذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36}[المطففين] .
قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن )
فلنتدبر القرآن الكريم باللجوء الى التفسير : ( الآيتين التي ذكرتهما ) وحتى لا نكون ممن هجر تفدبر معاني القرآن :
قال تعالى : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَن يَتَخطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال:26] .
تفسير ابن كثير:
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة، قليلين مستخفين مضطهدين، يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد اللّه، لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن اللّه لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها، وقيّض لهم أهلها آوو ونصروا وواسوا بأموالهم، وبذلوا مهجهم في طاعة اللّه وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، واللّه ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم، حتى جاء اللّه بالإسلام فمكّن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى اللّه ما رأيتم، فاشكروا اللّه على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من اللّه
==================================
قال تعالى : {إِنَّ الَذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36}[المطففين] . تفسير ابن كثير: .
يخبر تعالى عن المجرمين، أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين، أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم.
{وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي وإذا انقلب: أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين، أي مهما طلبوا وجدوا، ومع هذا ما شكروا نعمة اللّه عليهم، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم.
{وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} أي لكونهم على غير دينهم، قال اللّه تعالى: {وما أرسولا عليهم حافظين} أي وما بعث هؤلاء المجرمون، حافظين على هؤلاء المؤمنين، ما يصدر عنهم من أعمالهم وأقوالهم، ولا كلفوا بهم، فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم؟ كما قال تعالى: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}.
ولهذا قال ههنا: {فاليوم} يعني يوم القيامة.
{الذين آمنوا من الكفار يضحكون} أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك.
{على الأرائك ينظرون} أي إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته.
وقوله تعالى: {هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون}؟ أي هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين، من الاستهزاء والسخرية أم لا، يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
[b]من تفسير ابن كثير