الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله
تأليف ابن قيم الجوزية - الناشر دار القاسم
بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعلم الذي يبلغنا حبك .
أما بعد :روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد ، فلقينا رجلا عند سدة المسجد ، فقال يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : ( ما أعددت لها ؟ ) قال : فكأن الرجل استكان . ثم قال : يا رسول الله : ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله . قال : ( فأنت مع من أحببت ) وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإنك مع من أحببت ) وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم ، وإن لم أعمل بأعمالهم .
قال الإمام ابن القيم _ رحمه الله _ عن المحبة : ( المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون ، وإليها شخص العاملون ، وإلى عملها شمر السباقون ، وعليها تفانى المحبون ، وبروح نسيمها تروح العابدون ، وهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات ، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام ، واللذة التي من لم يظفر بها ، فعيشه كله هموم وآلام ، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة ، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب .
فإلى من أراد أن يرقى من منزلة المحب لله ، إلى منزلة المحبوب من الله ، أقدم ك هذه الأسباب العشرة التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (مدارج السالكين) مع شرح مختصر لها .
السبب الأول : قراءة القرءان بتدبر والتفهم لمعانيه ، وما أريد به ، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه .نعم فمن أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ كتاب الله ، قال الحسن بن علي : ( إ ن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل و يتفقدونها في النهار )
قال ابن الجوزي رحمه الله : ( ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصاله معاني كلامه إلى أفهامهم وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ، ويتدبر كلامه ) قال الإمام النووي رحمه الله :إن أول ما يجب على القارئ أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى 0 ولهذا فإن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها ،هي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمة جل وعلا فظل يرددها في صلاته ،فلما سئل عن ذلك قال
لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأها ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أخبروه أن الله يحبه) البخاري0
وينبغي أن نعلم أن المقصود من القراءة هو التدبر ، وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه0
فقد روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بآية يرددها : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [المائدة188] 0
وقام تميم الداري رضي الله عنه بآيه وهي قوله تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )[الجاثية :21] 0
السبب الثاني : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالى : ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) البخاري .
وقد بين هذا الحديث صنفان من الناجين الفائزين الصنف الأول : المحب لله مؤد لفرائض الله ، وقاف عند حدوده . الصنف الثاني : المحبوب من الله متقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل .( وهذا مقصود ابن القيم رحمه الله بقوله : ( فإنها موصلة إلى درجة المحبوبية بعد المحبة ) يقول ابن رجب الحنبلي _ رحمه الله _ : ( أولياء الله المقربون قسمان : ذكر الأول ، ثم قال : الثاني : من تقرب إلى الله تعالى بعد الفرائض بالنوافل ، وهم أهل درجة السابقين المقربين ، لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات ، والأنكفاف عن دقائق المكروهات بالورع ، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال تعالى في الحديث القدسي : ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) فمن أحبه الله رزقه محبته
وطاعته والحظوة عنده . والنوافل المتقرب بها إلى الله تعالى أنواع : وهي الزيادات على أنواع الفرائض كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة .
السبب الثالث : دوام ذكره على كل حال ، باللسان والقلب والعمل والحال ، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يقول : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ) صحيح ابن ماجة
للألباني وقال الله تعالى : ( فاذكروني أذكركم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد سبق المفردون ) قالوا ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم يبين خسارة من لا يذكر الله : ( ما يقعد قوم مقعدا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب ) صححه أحمد شاكر في تخريجه للمسند . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا من مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة ) صحيح
سنن أبي داود للألباني . لذلك لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع فقال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ) ، صحيح سنن ابن ماجه للألباني . وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم تلك الوصية وفقهوا معناها الثمين حتى أن أبا الدرداء رضي الله عنه قيل له : ( إن رجلا أعتق مائة نسمة . قال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ،
وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل ) أحمد في الزهد وكان رضي الله عنه يقول : ( الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك )
السبب الرابع : إيثار محابة على محابك عند غلبات الهوى ، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى . يقول أبن القيم في شرح هذه العبارة : ( إيثار رضى الله على غيره ، وإن عظمت فيه المحن ، وثقلت فيه المؤن ، وضعف عنه الطول والبدن )
وقال رحمه الله : ( إيثار رضى الله عز وجل على غيره ، وهو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلق ، وهي درجة الإيثار وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، وأعلاها لأولي العزم منهم ، وأعلاها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ) وذا كله
لا يكون إلا لثلاثة أمور :
1. قهر هوى النفس 2. مخالفة هوى النفس 3. مجاهدة الشيطان وأوليائه .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى ،ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه ، بل على اتباعه والعمل به ، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها ، كان نهيه عبادة لله ، وعملا صالحا ) [ 10/ 635 مجموع الفتاوى ]
السبب الخامس : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ، ومشاهدتها ومعرفتها ، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ، احبه لا محاله . قال ابن القيم رحمه الله : ( لا يوصف بالمعرفة إلا من كان عالما بالله وبالطريق الموصل إلى الله ، وبآفاتها وقواطعها ، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة .
فالعارف هو من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ثم صدق الله في معاملته ، ثم أخلص له في قصده ونيته ) فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وأتلف شجرة الإحسان فضلا عن أن يكون من أهل العرفان . ومن أول الصفات فكأنما يتهم البيان النبوي للرسالة بالتقصير إذ لا يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم أهم أبواب الإيمان بحاجة إلى إيضاح وإفصاح من غيره إظهار المراد المقصود الذي
لم تبينه العبادات في النصوص . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن لله تسعا وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة )
السبب السادس : مشاهدة بره وإحسانه ، وآلائه ونعمائه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته . العبد أسير الإحسان فالإنعام والبر واللطف ، معاني تسترق مشاعره وتستولي على أحاسيسه ، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة ويهدي إليه المعروف .
ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله ، هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح ، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ، ولا
مستحق للمحبة كلها سواه . والإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ، ولاطفه وواساه ، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه ، وأعانه على جميع أغراضه ، وإذا عرف الإنسان حق المعرفة ، علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط ، وأنواع إحسانه لا
يحيط بها حصر : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) [ إبراهيم :34] يقول سيد قطب رحمه الله [ الظلال 6/3645،3646]( فأما الأفئدة )
فهي الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا ، وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف به الإنسان في هذا الملك العريض ، والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال أمانة الإيمان الاختياري والاهتداء الذاتي والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم .ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة ولا مركزها داخل الجسم أو خارجه فهي سر الله في الإنسان ، لم يعلمه أحد سواه . وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى فإنه لم يشكر ( قليلا ما تشكرون ) وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به .
كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر نعمة الله عليه وهو لا يوفيها حقها ولو عاش للشكر دون سواه !!ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك
السبب السابع : وهو من أعجبها : انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى ، وليس
في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات . والانكسار بمعنى الخشوع ، وهو الذل والسكون . قال تعالى : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) يقول الراغب الأصفهاني : ( الخشوع : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح ، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل إذا ضرع القلب : خشعت جوارحه ) قال ابن القيم : ( الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار ) وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة ، تدل على ما كانت عليه قلوبهم من صفاء ونقاء . كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود ، من الخشوع ، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جزع حائط . وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ اصفر لونه ، فقيل له : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء . قال : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟ )
السبب الثامن : الخلوة به وقت النزول الإلهي ، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة . قال تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) [ السجدة :16] إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة ، بل هم من أشرف أهل المحبة ، لأن قيامهم في الليل بين يدي الله تعالى يجمع لهم جل أسباب المحبة التي سبق ذكرها . ولهذا السبب فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى الله عليه وسلم ويقول له : ( واعلم أن شرف المؤمن
قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس ) السلسلة الصحيحة . يقول الحسن البصري رحمه الله : ( لم أجد من العبادة شيئا أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له : ما بال المجتهدين من احسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره )
السبب التاسع : مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر ، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل : وجبت محبتي للمتحابين في ، ووجبت محبتي للمتجالسين في ، ووجبت محبتي للمتزاورين في ) صححه الألباني ( مشكاة المصابيح ) وقال صلى الله عليه وسلم
أوثق عرى
الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله ) السلسلة الصحيحة 728
فمحبة المسلم لأخيه في الله ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق ويحفظ الله به قلب العبد ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو ضعف .
السبب العاشر : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل . فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه ولن يجد نفعا أو كسبا في أخراه . قال تعالى : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الشعراء : 88]
و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم - من موقع رسالة الاسلام